الجمعة، 18 مايو 2012

الدرس الفرنسي -2-: حكومتنا وحكومتهم!

الرئيس الفرنسي خلال خطاب التنصيب
كنت في مقال سابق بعنوان "الدرس الفرنسي: في احترام مبادىء الجمهورية" قد طالبت الطيف المعارض في تونس بمختلف مكوّناته الإقتداء بالمثال الفرنسي في احترام مبادىء وقيم الجمهورية. أمّا في هذا النص، فسأتوجّه إلى حكومتنا العتيدة لأقارن بينها وبين حكومة القوّة الإقتصادية والسياسية الخامسة في العالم.
نشرت عديد وسائل الإعلام الفرنسية والأجنبية تركيبة الحكومة الاشتراكية الجديدة في فرنسا (الرابط الرسمي). وهذه الحكومة التي تتسلّم قيادة فرنسا في وضع إقتصادي متأزّم دوليا ويتميّز محليا بانكماش متواصل لمختلف القطاعات الإقتصادية والمالية والصناعية الفرنسية وارتفاع في عدد العاطلين عن العمل في البلاد، تنتظرها مهمّات صعبة حسب أكثر الملاحظين المتابعين للشأن الفرنسي. ومن الجيّد إلقاء نظرة عن قرب على تركيبة هذه الحكومة التي ستقود القوّة الإقتصادية والعسكرية والسياسية الخامسة عالميا خلال السنوات الخمس القادمة. ولقد لخّصت قناة فرنسا 24 أهم مميّزات التركيبة الحكومية الجديدة: 
  • عدد أعضائها 34 (18 وزير و16 كاتب دولة)
  • تناصف تام بين الرجال والنساء (17 مقابل 17) لأول مرة في تاريخ فرنسا
  • حكومة نسبيا شابة (7 أعضاء سنهم دون الأربعين) ومعدل الأعمار داخل الحكومة 52.4 سنة
  • حكومة مختلطة (أعضاءها موزعون على عديد الجهات الفرنسية بما فيها أراضي ومقاطعات ما وراء البحار)
الحكومة الفرنسية الجديدة
خلال حملته الانتخابية، أعلن الرئيس الفرنسي على نيته تخفيض رواتب مختلف أعضاء الحكومة الفرنسية ب30 في المائة، ومنع أعضاء الحكومة من مراكمة المسؤوليات (حكومية، بلدية أو تشريعية أو محلية). كما وعد بإمكانية محاسبة كل الوزراء وكتاب الدولة أمام مختلف مؤسّسات الدولة محلية كانت أو مركزية (انظر تحليلات جريدة لوموند الفرنسية هنا وهنا).
ونحن نعتبر أن أية حكومة تحترم نفسها وشعبها تبادر عند توليها السلطة في وقت الأزمات إلى الحد من التبذير في الإنفاق، تخفيض رواتب وامتيازات أعضائها، إضافة إلى الاقتصار على تركيبة مصغّرة من المسؤوليات الحكومية تكون النواة الصلبة التي تتعامل مع الشأن العام وتصريف الأعمال في الدولة. وكل هذه المميّزات تتوفّر في التركيبة الحكومية التي اقترحها فرانسوا هولاند عند تولّيه السلطة. والآن دعنا نعود إلى تونس لنقارن تركيبة السلطة التنفيذية التونسية (الحكومة + رئاسة الجمهورية) بنظيرتها الفرنسية.
أوّلا، إن كانت فرنسا تعيش أزمة إقتصادية حادة فإن تونس تشهد ثورة عارمة كشفت عن وجود 750 ألف عاطل عن العمل (ثلثهم كان نتيجة مباشرة للثورة بسبب تضرّر قطاع السياحة وهروب المستثمرين ومغادرة ما يزيد عن 120 مؤسّسة إقتصادية إلى وجهات أخرى أكثر أمانا، إلخ) وما يزيد عن 24.7% من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر (أي حوالي المليونين والنصف مليون نسمة) وارتفاع مطّرد لمؤشرات الأسعار تآكل معها ما تبقّى من القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة. وعليه فإن كانت فرنسا تشهد هذه الأيام عاصفة صيفية، فإنّ تونس تشهد تسونامي من الأعاصير المهلكة على كل المستويات الإقتصادية والأمنية والإجتماعية، إلخ. وبالتالي فإن كانت فرنسا قد تتحمّل حكومة موسّعة بما يتبعها من بيروقراطية ثقيلة وتمييع للتوجهّات الحكومية الكبرى وبطء في الإنجاز، فإنّ تونس في حاجة ملحّة وشديدة لحكومة مصغّرة وفعّالة، لها القدرة على السيطرة على الملفات الصعبة والحساسة كالإنعاش الإقتصادي والعدالة الانتقالية وتصفية إرث النظام السابق وتفكيك القنابل الإجتماعية التي توشك على الإنفجار في ثورة ضد الثورة. لكن ما وقع بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، كان عكس ذلك تماما حيث قام الإئتلاف الحاكم بتوسيع حجم السلطة التنفيذية بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد. فالحكومة تتكوّن من 41 عضوا (اثنين فقط منهم نساء). بينما يحيط برئيس الجمهورية فريق يقارب العشرين فردا (انظر قائمة تعيينات شهر جانفي هنا وتعيينات شهر مارس هنا، وفي هذا المستوى يجدر ملاحظة أنّ رئاسة الجمهورية كانت قد أصدرت بيانا صحفيا نفت فيه أن يكون عدد مستشاريها سبعة عشر. أما بالنسبة للتعيينات السابقة فقد نشرت بالرائد الرسمي عدد 6 ليوم 20 جانفي 2012 و عدد 21 ليوم 16 مارس 2012 على التوالي دون ذكر امتيازات من وقع تعيينهم ورتبهم في الوظيفة العمومية. كما يجدر أيضا ملاحظة أن بعضا ممن تم تعيينهم استقالوا أو تم التخلي عنهم وتعويضهم لاحقا بآخرين).
ثانيا، من البديهي أنّ استحقاقات الثورة أكثر وقعا وأهمية من استراتيجيات الدولة المستقرة، فالثورة الناجحة تجبّ كل فعل سياسي قبلها وتهدم كل بنى المؤسّسات السابقة لها وتُغيّر كل القيم والمبادىء والقواعد التي تحكم توزيع الثروة والسلطة داخل المجتمع. وعليه لو كان ما تسمّيه السلطة في تونس "ثورة" هو فعلا ثورة ناجحة ومكتملة لرأينا أن استحقاقات هذه الأخيرة الأخلاقية والسياسية على الأقل، قد اكتملت. وتركيبة الحكومة وفريق الرئاسة تدلّ على أننا لا نعيش في بلد هزّته ثورة وإنما مجرّد استحقاق انتخابي اجتمعت عقب التصريح بنتائجه بعض الأحزاب، وتقاسمت فيما بينها الأدوار والسلطات والمواقع مع ما يتبع كل ذلك من تضخّم في الحكومة وتغوّل في الامتيازات والرواتب وثقل للبيروقراطية وتقلّص للقدرة على الإصلاح. ودون السقوط في فخ المزايدات التي تحترفها المعارضة التونسية (التي لو قُدِّر لها الوصول للحكم لما كان سلوكها أفضل من سلوك الترويكا الحاكمة)، نقول أنّ الانتفاضة التونسية قادها الشباب وشاركت فيها المرأة بشكل متواصل فما وجدنا للشباب ولا المرأة مكانا في هذه الحكومة، اللهم إلا بعض الشباب من حزب المؤتمر الذي نال أسوأ المراكز في الحكومة فتمّ ترضية بعض أعضائه بضمّهم لرئاسة الجمهورية. وأما عن استحقاقات الثورة فحدّث ولا حرج! فبينما يحتلّ شيوخ السياسة قصري قرطاج والقصبة ويجتمع "نوّاب" الشعب سرّا في قصر باردو للزيادة في رواتبهم وامتيازاتهم يخيط جرحى الانتفاضة أفواههم ويشرف الكثيرون من أصحاب الحقوق الضائعة على الهلاك بسبب إضرابات الجوع. أما القضاء عسكريا كان أو مدنيا، فقد تحوّل إلى "غسّالة نوادر"، يدخل إليه القذر فيخرج طاهرا وشريفا!!
ثالثا، لا يكفي أكثر أعضاء الحكومة المسؤوليات الحكومية المنوطة بعهدتهم وما يتبعها من امتيازات ورواتب بل أصرّ أغلبهم على الاحتفاظ بمقعده في المجلس التأسيسي (ويجدر هنا ملاحظة أنّ رئيسي الحكومة والجمهورية اضطرّا للإستقالة من المجلس التأسيسي تطبيقا لأحكام التنظيم المؤقت للسلط العمومية بينما خيّر بعض الوزراء كالمنصف بن سالم الاستقالة من المجلس للتفرّغ لشؤون وزاراتهم). كنت في البداية، أعدّ ذلك إصرارا من هؤلاء على إيصال أصوات ناخبيهم إلى قصر باردو والمشاركة في كتابة الدستور الذي ائتمنهم عليه الشعب، لكن بعد ما تبيّن لي من استهتار هؤلاء بالمهمّة التي انتخبوا لإنجازها وذلك بالتغيّب المستمر عن الجلسات، الغش في التصويت وأخيرا عقد جلسة سرّية لأجل مناقشة زيادة رواتبهم وامتيازاتهم العينيّة (*)، بعد كل ذلك لم أعد أعتقد فعلا أنّ إصرار البعض على مواصلة الجمع بين المسؤولية الحكومية والمسؤولية التأسيسية بريء وبعيد عن حسابات الربح والخسارة، مادية كانت أو سياسية، خصوصا لمّا نعلم اضطرار نواب كتلة النهضة للتبرّع ب20% من رواتبهم إلى خزينة حركتهم (أو هكذا قرأت في ما تسرّب من رسائل أنونيمس بعد قرصنة حسابات بعض مسؤولي النهضة). 
رابعا، تداولت بعض صفحات الفايسبوك أنّ رئيس الجمهورية قد وعد بالتخلي عن ثلثي راتبه المقدر ب30 ألف دينار. وتردّد هنا وهناك أنّ رئيس الحكومة وعد أيضا بأنّ أعضاء حكومته سيتخلّون طوعيا على جزء من رواتبهم. لكن كل ذلك الحديث بقي مجرّد إشاعات فايسبوك ولم يبلغنا من أيّ مصدر جدير بالثقة ما ينفيه أو يؤكده. في المقابل، تجرّأت السيدة سهام بادي وزيرة المرأة والنائبة عن كتلة المؤتمر، على التصريح في برنامج الصراحة راحة بأنّ راتبها المقدر ب4600 دينار وما يتبعه من امتيازات غير كاف للعيش بشكل جيّد! وبودّي هنا التساؤل، هل يعقل أن يكون راتب رئيس الجمهورية ثلاثين ألف دينار شهريا في بلاد لا يتجاوز فيها الأجر الأدنى 240 دينارا. للمقارنة، يبلغ راتب الرئيس الفرنسي ما يقارب 21 ألف يورو (قبل خصم الضرائب) والأجر الأدنى المضمون 1096 يورو (بعد خصم الضرائب والآتاوات) وهو ما يعني أنه بعد أن يدفع ضرائبه، يتحصّل الرئيس الفرنسي تقريبا على نفس راتب الرئيس التونسي (مع اعتبار تحويل العملة). بينما يتحصّل المواطن الفرنسي على أجر أدنى مضمون يفوق ما يتحصّل عليه المواطن التونسي بعشر مرات مع فارق في غلاء المعيشة بواحد لستّة! 

إذن أيها العابرون عبر هذه الأسطر والكلمات، أنتم الآن تفهمون لماذا قرّرت إنشاء مدونة بهذا العنوان: مواطن محبط جداااا.. فرجال الإصلاح في بلدي إما في المنافي أو في القبور، ومن يحكمنا يفتقد إلى أبسط شروط الإصلاح: النزاهة والشرف. طبتم وطاب ممشاكم وإلى اللقاء في نص آخر أسكب فيه بعضا من إحباطي الذي لو بقي في داخلي لقتلني...


*: لمزيد التفاصيل، انظر مقالنا حول هذا الموضوع "سلوك بعض نوّاب المجلس التأسيسي: قدر شعبنا المعاناة بسبب نخبه!"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق