الأحد، 6 مايو 2012

"الديمقراطية" العائلية: حزب آل الشابي نموذجا...

قبل أحداث "الثورة" التونسية، كنت ككل مواطن يكره الاستبداد والديكتاتورية التي كانت تحكم تونس بيد من حديد، أعلّق آمالا واسعة على بعض رموز المعارضة المناضلة في ذلك الوقت. ومن ضمن هؤلاء، كنت أعتبر الثنائي التاريخي أحمد نجيب الشابي وميّة الجريبي رموزا للنضال الديمقراطي في تونس، ويحملان مشروعا بديلا على سلطة المافيات والعصابات والبوليس السياسي. ولقد كان هذين المناضلين من السبّاقين في مقارعة الديكتاتور بإمكانيات متواضعة، في ظروف صعبة وغير متكافئة، وبعدد قليل من الرجال وزاد ضئيل من الأموال. لقد اعتبرت تحت الديكتاتورية، أنّ الحزب الديمقراطي التقدمي أحد قلاع النضال الصادقة والجدية القليلة، ولا ينكر إلّا جاحد أو جاهل حجم التضحيات والنضالات التي قام بها مناضلوه يوم كان التونسي لا يفتح فمه إلا عند طبيب الأسنان. لكن ويالخيبة المسعى، انهار كل ذلك المجد ودُنِّس كل ذلك التاريخ الناصع بأسرع ممّا كنت أتصوّر. فبينما كان أبناء الشعب من المسحوقين ينتفضون في كل أنحاء البلاد وقوات إرهاب الدولة تصطادهم برصاص بنادق القنص وأسلحة الشتاير الهجومية، كان نجيب الشابي صحبة أحمد إبراهيم* يفاوض يوم 13 جانفي، على مجرّد مقعد في وزارة مقابل خيانة كل الدماء المراقة والتنكّر للانتفاضة الهادرة التي صنعها أبناء الشعب بأرواحهم. وكان خياره التضحية بكل شيء بما في ذلك مبادئه وضميره وتاريخه، لمحاولة إنقاذ الصرح المتهاوي لديكتاتورية متوحشة!

أحزاب غير قادرة على أن تطبّق الديمقراطية في هياكلها لا تستطيع التعامل بديمقراطية عند وصولها للسلطة!
رغم أنني مثاليّ كثيرا إلا أنني لست طهوريا على الإطلاق وذلك يجعلني أتفهّم أنّ عالم السياسة القذر بطبيعته، إضافة إلى طموح رجل قارع القمع طويلا قد يجعلانه يعقد صفقات سياسية مشبوهة أو غير منطقية. إلّا أنّ ذلك لا يبرّر مطلقا كل القرارات والمواقف التي صدرت عن الحزب الديمقراطي التقدمي بعد 14 جانفي بدءًا بمعارضة حلّ التجمّع الدستوري الديمقراطي (حزب المافيات والجريمة المنظمة)، تحدّي الإرادة الشعبية في قضايا عديدة في علاقة بالإجهاز على النظام السابق، الدفاع عن رموز ذلك النظام المتهاوي، المشاركة في حكومتي الغنوشي واستعمال الوزارة للدعاية الحزبية حينما كان البرنامج انتخاب رئيس خلال فترة الستين يوما (بينما كانت جحافل المواطنين في ساحة القصبة تطالب بمجلس تأسيسي). هذا دون التفصيل في المواقف اللاحقة ومنها للذكر، خرق قانون منع الإشهار السياسي ومساندة التجمّعيين في مطلب الإستفتاء لتقييد صلاحيات المجلس التأسيسي، إلخ... في كل الأحوال، كنت سأحترم هذه المواقف رغم اختلافي الجذري معها لو كانت نتيجة مخاض ديمقراطي مؤسّساتي يعبّر بحق على إرادة منخرطي الحزب وهياكله. لكن المفارقة الغريبة هي صدور كل تلك المواقف الدقيقة عن بعض أعضاء المكتب السياسي وبشكل رئيسي أحمد نجيب وعصام الشابي دون أية استشارة لبقيّة المناضلين، في قطيعة تامة مع قواعد الحزب وفي تجاهل تام للديمقراطية الحزبية! كل ذلك أدّى إلى انشقاق كثير من المناضلين التاريخيّين في هذا الحزب العريق وكان السبب الأهم في الهزيمة المدوّية لقائماته خلال انتخابات 23 أكتوبر. 
كان من المفترض في حزب يرفع لواء الديمقراطية والتعددية، أنّ هؤلاء الذين تسبّبوا في هزيمته التاريخية والمرة في أوّل استحقاق انتخابي بعد أفول نجم الديكتاتورية، الانسحاب من القيادة ليتركوا أماكنهم لمناضلين آخرين يقيّمون بموضوعية أوضاع الحزب ويستلمون قيادته ليقوموا بتصحيح المسار وتجاوز الكبوة. لكن النرجسيّة المفرطة والعلاقات العائلية إضافة إلى "شرعية" التأسيس والزعامات الهلامية كانت سدّا منيعا أمام أي إصلاح أو تغيير داخل الحزب. وظهر ذلك جليّا في طريقة تعاطي القيادة مع نتائج تقييم الانتخابات، ووصولا إلى الفضيحة المدوّية في المؤتمر التوحيدي مع حزب آفاق حيث تم التخطيط والإعداد وتنفيذ تطهير شامل لكل الأصوات المعارضة "للقيادة التاريخية". وهذا مقال مفصّل على موقع كابيتاليس يطنب في تعداد خصائص "الديمقراطية" على طريقة آل الشابي ومن لفّ لفّهم!
يقول صاحب المقال متحدّثا عمّا حدث خلال المؤتمر التوحيدي مع حزب آفاق:
ينتظر عملية تطهير ستالينية شاملة داخل الحزب لإقصاء كل الكفاءات وكل المناضلين الذين لم يقسموا قسم الولاء لقيادة الحزب، عملية "توكاتشفيسكي"-مكرّر حقيقية!

ويواصل الكاتب ليصف نتائج عملية التطهير التي نفّذتها قيادة الحزب بدقة قائلا:
تكشف قائمة ال156 شخصا المنتخبين لعضوية اللجنة المركزية [عن الحزب الديمقراطي التقدمي] وجود عشرات من آل الشابي [عائلة نجيب وعصام الشابي]، عدد كبير بشكل مبالغ فيه لأصيلي المرسى (معقل نجيب [الشابي]) وأريانة (معقل عصام [الشابي])، بالإضافة إلى أنّ أكثر من 50 في المائة من المنتخبين أصيلي تونس الكبرى. بحيث يصعب القيام بأفضل من ذلك في المحسوبية والجهوية!
في حوار إذاعي جمع محمد الحامدي أحد أبرز عناصر التيار الإصلاحي المنشق، وإياد الدهماني أحد أخلص جنود نجيب الشابي، صرّح الحامدي بأنّ المشكل الأكبر في الحزب هو تغوّل مجموعة متنفّذة داخل القيادة وسيطرتها على سلطة القرار في الحزب مما أدّى إلى كل المواقف الخاطئة السابقة. فكان ردّ إياد الدهماني بأن الانتخابات جرت في مناخ ديمقراطي شفاف وأنّ الإشكال يكمن في النظام الداخلي القديم للحزب الديمقراطي التقدمي. فكانت إجابة الحامدي بأن "هناك نقص حاد في الديمقراطية في الديمقراطي التقدمي منذ زمن (...) وتعاملنا معه بكثير من التسامح والصبر في عديد المراحل لاعتبارات تهمّ المرحلة ولتوهّمنا بإمكانية الإصلاح" فقاطعه الدهماني قائلا "الديمقراطية هي الانتخابات"! نعم هكذا!

الحوار الإذاعي الذي جمع محمد الحامدي وإياد الدهماني يوم 30 أفريل 2012

بعد أيام قليلة، سئلت ميّة الجريبي عن تفاصيل الأزمة التي تعصف داخل الحزب فلخّصت ذلك في أنّ المجموعة المنشقة هُزمت في الانتخابات فرفضت النتائج وقرّرت الانسحاب. و أضافت أنّ "أحسن ديمقراطية هي صندوق الاقتراع"! يعني لا يهمّ كيف يتمّ التعبئة ولا أية عمليات غش قد تشوب إطار الانتخابات لتصبّ كلها في صالح متنافس دون البقيّة. بن علي أيضا كان يتفادى الغش المباشر في انتخابات 99% بل كان يعمل على إعداد الإطار المناسب الذي يعطيه النسبة التي يريدها.

تصريح ميّة الجريبي يوم 2 ماي 2012
وتكرّرت نفس الروايات من هذا الجانب وذاك في لقاء تلفزيوني يوم 5 ماي على قناة "التونسية".

حوار بين إياد الدهماني (أحد جنود نجيب الشابي المقرّبين) ومحمود البارودي (أحد عناصر التيار الإصلاحي المنشق بعد عملية الإقصاء المتعمد التي تعرضوا لها خلال المؤتمر التوحيدي للحزب الجمهوري) على قناة "التونسية"
بعيدا عن الاصطفاف مع أو ضد هذا أو ذاك، من الواضح أنّ أحزابا غير قادرة على تطبيق الديمقراطية داخل هياكلها لا يمكن بأيّ حال من الأحوال ممارستها مع خصومها على الساحة السياسية سواء كانت في السلطة أو المعارضة. ثم إن القول بأن "الديمقراطية هي الانتخابات" تسويق لمفهوم ديكتاتوري غبيّ. الانتخابات ليست سوى أحد الإجراءات الضامنة للتمثيلية داخل المنظومة الديمقراطية. وشفافية الإقتراع شرط لازم لكنه غير كاف للقول بأنّ المنظومة ديمقراطية! ونحن نعتقد أنّ المشكل العميق في الساحة السياسية التونسية (وما الحزب الديمقراطي التقدمي سوى نموذج قابل للتعميم داخل الساحة السياسية) هو الطبع الاستبدادي والإقصائي لأغلب القيادات السياسية التي كانت ترفع شعار الديمقراطية ووتتشدّق بحسنات الحوار في مقارعتها للاستبداد. هذه القيادات النرجسية والعاطفية والزعامات الورقية الواهمة قد طبعت عبر السنين بطبائع الاستبداد وسياسة ما أريكم إلا ما أرى! والدليل على ذلك أنها لا تقبل الرأي المخالف إلا على مضض بل وتسعى دوما إلى إقصائه وتهميشه. وأحمد نجيب الشابي هو أحد الأمثلة الحية على السياسي المستبد الذي يعتبر مناضليه مجرّد أعوان يجب أن يعملوا من أجل إيصاله لكرسي السلطة، ويرى أية معارضة له تمرّدا على "شرعيّته التأسيسية" وتهديدا للحزب الذي يعتبره ملكا خاصا ووقفا عليه وعلى مقرّبيه! والمتأمل بعناية للساحة السياسية التونسية يرى أنّ هذا المشهد الكاريكاتوري يتكرّر مع بعض الاختلافات، في أغلب الأحزاب الأخرى، يمنية كانت أو يسارية. وعليه فإنّ الحل لديمقراطية تونسية حقيقية هو تطهير الساحة من كل هؤلاء بلا رجعة.
وعلى غرار مشروع قرار إقصاء رموز التجمع من الممارسة السياسية لمدة عشر سنوات فنحن نطالب من هذا المنبر تعميم هذا المشروع لإقصاء كل من تجاوز العقد السادس من العمر وكان له نشاط سياسي في عهدي بورقيبة أو/و بن علي وذلك مهما كان توجّهه. الحل هو تشبيب الساحة السياسية والتخلّص من بارونات عهود الديكتاتورية بفكرهم الرجعي والزعاماتي المقيت!



هوامش:
* الأمين الأول لحزب التجديد الذي ساند بن علي لسنوات طويلة ويحمل إرث الحزب الشيوعي التونسي الذي انحاز خلال فترة الاستعمار إلى جانب المستعمر الفرنسي وحارب قوى التحرّر الوطني بدعوى العمل من أجل وحدة البروليتاريا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق