الخميس، 10 مايو 2012

الدرس الفرنسي -1-: في احترام مبادىء الجمهورية!

ساركوزي وهولاند في احتفال ذكرى 8 ماي 1945
مصدر الصورة
تناقلت مختلف وسائل الإعلام الفرنسية بإعجاب وفخر شديدين خبر إستدعاء الرئيس الفرنسي المتخلّي اليميني نيكولا ساركوزي للرئيس المنتخب حديثا الاشتراكي فرانسوا هولاند في احتفال ذكرى 8 ماي 1945. ركّزت الصورة بشكل خاص على قبضة اليد التي جمعت رجلين تقاتلا بشراسة خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى الحد الذي وصل في أحيان كثيرة للتجريح والتحقير. فلا أحد ينسى المناظرة التلفيزيونية التي وقعها بثّها يوم 2 ماي 2012 ووصل فيها الأمر لنعت هولاند ب"الكاذب" و"مرشّح المهاجرين" والمدافع عن المسلمين من قبل ساركوزي! لكن رغم كل تلك الاختلافات السياسية، مشى الرجلان جنبا إلى جنب ليضعا إكليلا من الزهور على نصب الجندي المجهول تخليدا للانتصار على ألمانيا النازية. قدّم هذا الحدث صورة مشرقة لفرنسا التي تذوب كل الاختلافات السياسية والحزبية والانتخابية فيها تحت راية الجمهورية الموحّدة والديمقراطية المؤسّساتية الناضجة. وكانت ردود فعل مساندي الرئيسين الذين تواجها منذ أيام قليلة كلها تصبّ في نفس مستوى نضج الرجلين الذين يمثّلان الدولة الفرنسية.
لست هنا أعبّر عن افتتان بفرنسا والفرنسيّين. بل ما أبعدني ع
ن ذلك. لكن الصورة تعبّر على نفسها بنفسها!

وبالعودة لتونسنا المنتفضة، أتذكّر كل تلك الطبقة السياسية التي يمّمت وجهها شطر الإيليزي وجعلت من باريس كعبتها التاريخية التي لا تحجّ لغيرها، أقف على "ديمقراطيينا" الأفذاذ الذين جعلوا شعار الديمقراطية ملكا خاصا لهم دون غيرهم ولا يجوز لأحد آخر أن ينال تلك الصفة دونهم. أتأمّل تلك النخبة التي رضعت من ضرع الثقافة الفرنسية حتى أصبحت مؤسّسة تبادل ثقافي فرنسي موازية. وأتفكّر في "حداثة" أدعياء الحداثة عندنا ممّن جعلوا من حداثة فرنسا أصلا تجاريا يزايدون به في المنابر الإعلامية التونسية. ولست هنا أزايد عليهم ولا أشرّع لحرمانهم في حقهم في "الانتماء لفرنسا ومورثها الحضاري العريق"، فأنا أختلف معهم لكنني لا أغمطهم أبدا حقّهم في التفكير بشكل مغاير. وإنّما أتساءل فعلا عن مدى "ديمقراطيتهم" و"حداثتهم"، عن حقيقة ولائهم ووفائهم للنموذج الفرنسي! كيف لا وقد احتلّوا شاشات التلفيزيونات يسبّون الشعب الذي صوّت لخصمهم السياسي الإسلامي؟ كيف لا وقد قالوا عمّن صوّت لعريضة المدعو الهاشمي الحامدي أنّهم "رعاع" و"جهلة" و"جبورة عايشين وراء البلايك"، فاشتعلت عديد المدن وأوّلها سيدي بوزيد غضبا ونالت النيران من مؤسّسات الدولة ومصالح الناس؟ كيف لا وهؤلاء يستعملون الإعلام لتهييج الشارع وبثّ الإشاعات والأكاذيب على مدار الساعة؟ كيف لا وأحزابهم تتفتّت بسبب غياب الديمقراطية داخلها (إقرأ المزيد حول تحليلنا لأحد النماذج هنا)؟ كيف لا وهؤلاء يضعون أيديهم في أيدي رجال بن علي المخلصين لإحياء "البورقيبية"؟  كيف لا وهؤلاء لا يتورّعون على الجلوس مع برلسكوني والوليد بن طلال وطارق بن عمار في أفخر الفنادق الباريسية للحديث في شأننا الوطني؟ كيف لا وأحد زعمائهم يقوم بجولة ماكوكية بين دول الخليج، بدءًا بآل سعود، في طائرة شهيد حرية التعبير "ولد بوه الحنين" "للتباحث في الوضع الاقتصادي والسياسي بتونس" بينما لا يتورّعون على رفع شعار "تونس حرة.. لا أمريكا لا قطر" في شوارع العاصمة؟ وهلمّ جر..

قد أتفهّم حجم المرارة الذي يشعر به البعض بسبب هزيمته الانتخابية. قد أفهم أنّ المعارضة دورها نقد الحكومة وحرصها على الوصول إلى السلطة قد يجعلها تصوّر كل ما تقوم به هذه الأخيرة أسودا وغير ذي قيمة. قد أعتبر أنّ لجوء بعضهم للشعبوية المفرطة والتهريج والضوضاء يعود سببه إلى حداثة الممارسة الديمقراطية في البلاد. قد أعزو زعماتيّة بعض رموز المعارضة وتشبّثهم الأزلي بمواقعهم لعدم وجود رموز شابة قادرة على تغيير المشهد الداخلي لأحزاب وجماعات المعارضة. قد أجد لكل هؤلاء ألف عذر وعذر. لكن لا يمكن لحنقي على عجز الحكومة وانعدام كفاءتها أن يدفعاني إلى تجاهل ازدواجية خطاب أغلب الطيف المعارض في البلاد، حيث يقولون ما لا يفعلون ويتشدّقون بما لا يؤمنون وعلى مصلحتهم الشخصية، الحزبية والفئوية الضيقة فقط يبحثون! لا يمكنني أن أجد تفسيرا واحدا لتجرئهم على شعبهم، أو جزء منه لم يصوّت لهم. لا أفهم ما معنى أن يقوموا بِليّ أعناق نتائج الانتخابات ليثبتوا أنّ الحزب الحاكم ليس أغلبيا وأنّ شرعية الترويكا الحاكمة منقوصة. بل يصل الأمر لترويجهم أن رئيس الجمهورية لم ينتخبه سوى سبعة آلاف شخص وبالتالي غير ممثل للإرادة الشعبية، متجاهلين أنّ ممثلي الشعب هم من انتخبوه!

لقد عرّى ساركوزي رئيس فرنسا السابق التي يتشبّث بها وبثقافتها الكثيرين منهم، نفاقهم ولا ديمقراطيتهم بأن أعطاهم درسا بليغا في السياسة. يمكن أن تخسر ثقة الشعب والاستحقاق الانتخابي لكنّك لو كنت ديمقراطيا وتؤمن بالمبادىء الحقّة للجمهورية لاعترفت بشرعية من اختاره الشعب وشرعية سلطته، ولعملت معه من أجل مصلحة البلاد، لا أن تطلق الاعتصامات والتحرّكات الاحتجاجية منذ اليوم الأول للسلطة الجديدة، لإسقاط الحكومة في الشارع والتلفزيونات وفنادق باريس الفاخرة! فهل سيتعلّمون الدرس؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق