الجمعة، 8 يونيو 2012

هل أتاك حديث شعب الله الساذج؟

يجب على [النهضة] أن تحقّق لنا شيئان: "لا نخلّصو لا ماء لا ضوْ (...) وكل مواطن قابسي تجيه شهرية لدارهْ"... ذلك ما يصرّح به أحد المواطنين في الفيديو المصاحب (الدقيقة '1:20)! أوّلا، على مستوى الشكل: ما معنى "مواطن قابسي"؟ هل قابس دولة حتى تنسب لها المواطنة -مع احترامي العميق لكل أهالي قابس-؟ ما أعلمه هو أنّ كل التونسيّين أيا كانت جهاتهم وفئاتهم هم مواطنون تونسيون يُطالِبون باستحقاقات تلك المواطنة ويُطالَبون بواجباتها فقط أمام الدولة التونسية ككيان قانوني أولا وإعتباري ثانيا... أما في ما يخص الموضوع الرئيسي لهذا المقال، فإنني أتعجّب من هؤلاء المواطنين ومن غيرهم من الذين يشتكون هذه الأيام، من عدم تحقّق وعود أغلبية الأحزاب وعلى رأسها حركة النهضة. تصيبني الدهشة لعدّة أسباب أكثرها بديهي ولا يحتاج إلى معرفة بالاقتصاد ولا اطّلاعا على مؤشّراته بل فقط لبعض الفطنة الطبيعية: هل كان هؤلاء يصدّقون فعلا أنّ النهضة -أو غيرها- قادرة إن وصلت إلى الحكم أن تعفيهم من معاليم فواتير استهلاك المياه والكهرباء؟ لو كان الأمر كذلك، فلما لم يفعل بن علي ذلك من قبل وينقذ نفسه ونظامه وهو الذي حاول القيام بكل شيء ممكن ولم يتمكّن سوى من تخفيض أسعار بعض المواد الأساسية بقيمة عشرين مليما وتكبّدت خزينة الدولة جرّاء ذلك أعباء إضافية تقدّر بآلاف الملايين من الدنانير أغلبها كان مصدره التداين الخارجي؟ وهل يعتقد من صوّت للنهضة أن الدولة قادرة فعلا على منح كل مواطن جراية شهرية؟ إن كان الأمر بتلك السهولة فلم لم يقتد بن علي بالقذافي الذي رغم توزيعه لريع النفط على مواطنيه إلا أنّ جزاءه كان في النهاية ما نقلته التلفزيونات ويعرفه الجميع؟

شعب الله الساذج!

يقول الأوّل: "وينها النهضة.. وينها النهضة.. آنا وأولاد مقيّدين في النهضة.. آش عملتلنا النهضة" فيضيف الثاني "بن علي يطمّن فينا بلا حتى شيء.. النهضة دخلت تطمّن فينا بالقرآن.. واحنا قلوبنا على القرآن..". عندما تصغي لما يقوله هؤلاء، تتساءل لاإراديا إن كان بن علي على خطأ عندما حكمهم بدكتاتورية بوليسية قذرة؟ البعض ينضمّ إلى الأحزاب من أجل مصلحته الشخصية والعائلية وآخرون يصوّتون لحزب دون غيره لاعتقادهم بأنه يحمل مبادىء القرآن الكريم! عندما انقلب بن علي على بورقيبة، وجد في هؤلاء الاستعداد للعيش تحت نير العبودية فاستغلّ الظرف وأخضعهم لمشيئته لسنوات طويلة في بيعة قوامها "الدكتاتورية مقابل الغذاء"، ولمّا كثر فساد نظامه ولم يعد يصلهم أيّ شيء من مكاسب البلاد ثاروا عليه من أجل تحصيل نصيبهم. ثم جاءت النهضة فوجدت أنّ هؤلاء مستعدّين لمبايعتها على نفس المبدأ، فهل سترفض ذلك؟! قطعا لا! في الدول المتحضّرة أين يعتبر كل فرد أنه مواطنا كامل الحقوق والواجبات يربطه بالسلطة عقد محدّد البنود، لا ينظر ذلك المواطن إلى الأحزاب من زاوية المنفعة الشخصية الفردية البحتة ولكن بمنظار الفائدة التي ستغنمها البلاد من السلطة الجديدة. والعقد الأسمى (ممثلا في الدستور أوّلا والقوانين المنبثقة عنه ثانيا) الذي تقوم عليه تلك الديمقراطية يحدّد نصيب كل فرد ومجموعة وجهة من تلك "الفائدة العامة" بدقة ودون حيف أو تجبّر. وليتمكّن ذلك المواطن من الحكم على كل مترشح (سواءً كان حزبا أو شخصا) لممارسة السلطة، يطلّع على برنامجه الانتخابي، وتنتصب حلقات الحوار المواطنية في وسائل الإعلام والمنابر الأكاديمية لتحليل كل برنامج على حدة ولتحديد أيها أكثر واقعية وقابلية للتنفيذ، وذلك ببساطة لأنّ الوعود سهلة أما الوفاء بها فهو مهمّة شاقة لا يتقن أيّ كان القيام بها!


فهل كانت البرامج هي محور انتخابات 23 أكتوبر الفارط؟ 
لقد انبرت الأحزاب اليمينية محافظة كانت أو ليبرالية، في شراء ذمم الناخبين بالمساعدات والعطايا. فمن منا للذكر لا الحصر، لا يتذكر حملات النهضة لختان وتزويج أبناء بعض الأحياء الفقيرة، أو حملات التطبيب والعلاج المجاني في بعض المناطق. ولقد وصل الأمر بالبعض لاتّهام الحركة باستدراجهم عبر خلاص فواتيرهم لاستهلاك المياه والكهرباء وتقديم وعود لهم بالحصول مجانا على "علوش العيد" مقابل أصواتهم كناخبين. أما الحزب الوطني الحر، أو حزب "توّة"، فقد صرف أموالا كثيرة على قوافل الإعانات للمناطق المحرومة. أين تلك المساعدات الآن بعد أن جلس نوّاب النهضة في المجلس التأسيسي ليتمتّعوا بآلاف الدنانير من أموال هؤلاء المواطنين الذين انتخبوهم - كأجور ومنح وامتيازات؟ وأين سليم الرياحي -رئيس الوطني الحر- ليبعث مشاريع تشغل الآلاف كما كان يعد خلال الحملة الانتخابية؟ أين ال590 ألف شغل التي وعدت بهم النهضة وال750 ألف وظيفة التي وعد ببعثها الوطني الحر؟ وهل من المعقول أن يوفّر الهاشمي الحامدي وعريضته الشعبية منحا لنصف مليون عاطل عن العمل وتغطية صحية لكل مواطني البلد فقط بتوظيف ضريبة بعشرة دنانير على كل تذكرة سفر؟ وهل يعقل أن يوفّر أحد الأحزاب خبزا لكل التونسيّين بحساب مئة مليم للرغيف وآراضي صالحة للبناء بحساب 400 متر مربع لكل مواطن؟


في المقابل، أغرقت أحزاب اليسار إمّا في طروحات عفى عنها الزمن كقومجية أحزاب البعث وشيوعية حمّة الهمامي ورفاقه أو في تعميق الخلافات السياسوية التي تعدّ في أحسن الأحوال ترفا فكريا، من قبيل "معركة الهوية" و"حداثة الصالونات الفخمة"، إلخ. وجعل كثير من تلك الأحزاب هدفه ليس نيل ثقة الشعب عبر دفعه للوعي بقضاياه الأساسية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وطرح حلول واقعية لمعالجتها وإنما فقط إلحاق الهزيمة بالنهضة لأسباب سياسوية وإيديولوجية كريهة! أما على الصعيد الإعلامي، فجلّ الإذاعات والتلفزيونات التي ورثناها عن دكتاتورية بن علي قد تجندّت لتكون المنبر المثالي لتلك الحوارات السياسوية الهوياتية التي لا نفع للشعب من ورائها، بل كثيرا ما كانت عامل تفرقة بين المواطنين وتصنيفهم إلى كفاّر ومؤمنين، محجّبات وسافرات، تقدّميين ورجعيين، إلخ من الثنائيات التي تقود بلا جدوى إلى الصراع العقيم!
أما أبناء الشعب فانقسموا إلى أربعة مجموعات: تعدّ الأولى نسبة قليلة من هؤلاء الذين حاولوا أن يحكموا على برامج الأحزاب ونواياها بمعزل عن الصراعات الإيديولوجية. أمّا الثانية فلم تفهم شيئا أو سئمت سريعا ممّا يحدث فكانت الغائب الأكبر خلال الاقتراع (أكثر من 3 مليون ناخب)، وحدّدت الثالثة خياراتها إما لأسباب إيديولوجية أو انتهازية وفي كل الأحوال لا علاقة لها بالمصلحة العامة (التصويت من أجل الهوية / الحداثة، المصلحة الشخصية / الحزبية / الجهوية / الفئوية، إلخ) بينما تتميّز الرابعة بنسبة أمية وجهل كبيرتين وكانت هدف المتحيّلين أمثال المدعو الهاشمي الحامدي وعريضته الشعبية. وكان غياب المجموعة الثانية والحضور اللافت للمجموعتين الأخيرتين المحدد الرئيسي لنتائج الانتخابات التي أفرزت لنا تقريبا أسوأ ما في الطبقة السياسية التونسية يمينا ويسارا على حد السواء. 

وماذا عن المستقبل؟ 
في ضوء عجز الأحزاب المنهزمة (من كل الأطياف) في الانتخابات الأخيرة عن تعلّم الدروس الحقيقية لاستحقاق 23 أكتوبر الفارط، وعجز الأغلبية عن القيادة الكفأة للدولة، التعفّف عن شهوة السيطرة على المناصب والأجور والامتيازات والاستمرار في سياسة دمغجة القواعد وبناء الميليشيات الواقعية والإلكترونية للدفاع عن "خيارات" الحكومة الشرعية الثورية المنتخبة (إلخ إلخ)، وكذلك استمرار سيطرة نخبة قديمة وعتيقة لا تزال تعيش فكريا وإيديولوجيا في النصف الأوّل من القرن الماضي على الساحة السياسية الوطنية، وتمكن أزلام التجمّع والدساترة من إعادة إحياء شبكات نفوذهم السياسي والمالي في الجهات، وحقيقة أنّ من يحدّد اتجاه أية انتخابات في تونس هو ذلك المخزون الاستراتيجي من الرعاع الذين لا يهمّهم سوى مصالحهم الضيّقة فإننا لن نستغرب بأن يكون "شعب الله الساذج" هو ذلك الحمار الذي سيركبه أزلام الدكتاتورية ليذهبوا رأسا إلى قصر قرطاج (انظر مقالنا السابق حول الموضوع).


إنّنا نعاني في تونس من غياب كبير لإحساس الفرد بالقيم المؤسّسة للمواطنة بما تعنيه من مشاركة في الشأن العام، من صلاح وأمانة في التعامل مع الدولة، من مراقبة ومحاسبة لها ومن إعلاء للمصلحة العامة على مصلحة الفرد والمجموعة. وطبيعي أن نعيش ذلك الغياب باعتبار أنّ ربع المواطنين أمّيون والنظام التعليمي رديء والإعلام يفتقد إلى المهنية والرشاد. وكل تلك العوامل تحدّ بالتأكيد من قدرة المجتمع على إصلاح نفسه وتحصينه من إعادة إنتاج دولة الدكتاتورية والمافيات. كنت دوما أتمنّى أن يكون لنا نخبة رشيدة وساسة وطنيّون  يلعبون دورا قياديا يعوّضنا عن ذلك النقص الفاجع في أدوات الإصلاح ويسعون إلى دفع المجتمع إلى الاهتمام بالقضايا الحقيقية التي تعنيه، وتعويده على التعدّد في الرؤى والاختلاف في المناهج وتدريبه على نكران الذات من أجل مصلحة المجموعة الوطنية. لكن -وما أسوأ الاستدراك- أثبتت لي الأشهر الثمانية التي تلت أوّل اجتماع للمجلس التأسيسي بأنّ نخبتنا وساستنا لا يَصْلحون ولا يُصْلحون!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق